لنقل باللسان الشعبي إذن إن الفتوى عندما خرجت من دارها قلّ مقدارها. ولا نعني بدارها هنا أهليها وعرابيها ومصدريها ومروجيها وقدراتهم ومؤهلاتهم ومعارفهم، ولا بالموضوعات التي راحت الفتوى تتطرق إليها خارج سياقاتها المعتادة. رغم أن الكثيرين يعتقدون أن هذين السببين هما المسؤولان عن تدهور مكانة الإفتاء وضعف تأثيره وكثرة أخطائه، إلا أني أرى أن هذين الشأنين لا يمكن أن يكونا بالضرورة سببين رئيسين وراء تدهور مكانة الفتوى في المجتمع لأن الفتوى، بشكلها المبسط، هي رؤية شرعية يحقّ لكل من رأى نفسه مؤهلاً لإطلاقها أن يطلقها لتأخذ مجراها في سياقات التفنيد والتأكيد، فيذهب الزبد ويبقى ما ينفع الناس، وذلك من باب حرية التلاقح الفكري، ومنح الجميع فرصة للتدبر والمشاركة، وإحالة الجميع إلى معيار مفتوح يحدد قيمة ما صدر منهم من آراء وأفكار وفتاوى، دون حصر الإفتاء على نخب محدودة، يجيز بعضها بعضاً، مما يخلق بيئة مناسبة لتعشش الأفكار ومنعها من فرص النمو الطبيعي والتغير الحتمي.
كما يحق لكل من تصدى للإفتاء أن يسبغ رؤيته الشرعية هذه على كل مجال يراه ضرورياً دون أن يضطر إلى حصرها في مجالات محددة كما يرى أنصار العلمنة الاجتماعية. فشؤون الحياة ومجالاتها المختلفة تعمل كأجساد البشر، تقبل ما تآلف معها من أجسام خارجية وترفض ما اختلف عنها وإن بعد توعك طفيف. وحقن مجالات الدنيا برؤى شرعية ليس خطأً محضاً، وليس صواباً محضاً إذن. والمعيار هنا هو ما يتفق المجتمع المتحرر من نسقية الفكر وجمعيّة الرأي على استحسانه أو استهجانه. الفتوى ليست إلا فكرة ذات صبغة شرعية، والأفكار لا يجب قصرها على فئة من الناس أو مجال من المجالات.
ما كنت أقصده هو أن (دار) الفتوى التي خرجت منها فقلّ مقدارها، هي أهدافها ونياتها. فالحقيقة أن الداء الذي فتك برصانة الإفتاء ليس جريانه على ألسنة علماء أقل رمزية من الجيل القديم، ولا بسبب تناوله موضوعات جديدة وحديثة وغير معتادة، بل لأن الفتوى تحولت من فعل ثقافي إرشادي إلى آلية سيطرة سريعة. الفتوى التي كانت عنصراً هاماً في استراتيجية الحراك الديني أصبحت مجرد ممارسة تكتيكية لكسب جولة اجتماعية قصيرة النفس. وبما أن الجولات كثيرة، والمعركة الفكرية محتدمة، اضطر التيار إلى إفراز كمية من الفتاوى أكبر مما يمكن للمجتمع أن يستوعبه ويتمثله في سلوكه، فلم يبق أمامه إلا أن يطيع ما يسمعه من فتاوى دون تفكير أو تساؤل، أو يقف أمام فوضى الفتاوى دون حراك حتى تتضح له الرؤية. والقياس الدقيق للسلوك الاجتماعي يقول إن طائفة أكثر من الناس تهاجر من الخيار الأول إلى الخيار الثاني كل يوم، واللذين لا يقل أي منهما سلبية عن الآخر.
فقدان الفتوى فاعليتها وقدرتها على التأثير يرجع في مجمله إلى ظروف المجتمع وتحولاته الفكرية. وحتى في العصور السابقة كان للإفتاء سطوة متغيرة، تزيد كلما زاد المجتمع تجانساً واتفاقاً على المرجعيات، وتنقص كلما هبت رياح التغيير من جهات متفرقة واضطرم الجدل الفكري. الشيء الذي لا يتغير هو أنه كلما تحوّل النص المقدس من حكمة خام وحرة إلى أداة تأثير موجهة فقد الكثير من روحانيته الدينية، وتلوث بأهداف أيديولوجية. عندما يحول المفتون فتاواهم إلى أسلحة تيارية بعد أن كانت نبعاً روحياً، فإن هذه الأسلحة لا تلبث أن تنقلب عليهم سريعاً بعد أن تتحقق لهم مكاسب سلطوية قصيرة قبل أن تتحول الفتوى إلى نكتة، ويناضل بعدها العلماء ليس لإنقاذ فتاواهم السابقة من السخرية الاجتماعية بل لإنقاذ مكانتهم شخصياً من التطاول الذي لم يجربوه من قبل. ولعل هذا كان واضحاً في مشهدنا المحلي عندما تحول تعليق أحد المفتين على واحدة من فتاواه المثيرة للجدل من دفاع علمي وجدلي عن فتواه إلى مقالة طويلة في مديح الذات وتذكير الناس بمسيرته ومكانته. هذا المفتي لم يعد يهتم بسلاحه الذي سقط (فتواه)، بل بقلعته التي تصدعت (رمزيته العلمية). ولهذا لم يعد يعنيه أن يجادل فيما تبيّن له بوضوح أن الأغلبية استهجنته ورفضته وحولته إلى مقلاع عكسي للنيل من مصدرها، بل اتجه إلى ترميم ما تساقط من ذاته الاجتماعية، وإعادة تأهيلها رمزياً للعودة إلى مكانتها المستحقة، وإن استخدم من أجل ذلك آلية غير مجدية من نوع: مديح الذات المباشر.
فكرة أن تكون الفتوى مثار تندر وجدل اجتماعي ساخر هي فكرة يقاومها الكثيرون، لاسيما أنصار التيار نفسه الذين يخففون من أثر هذا المصير المحبط على أنفسهم وأتباعهم بكون الأمر لا يخرج عن مؤامرة إعلامية حاكتها (قلوب مريضة)، ويشيرون إلى أن ثلة من المستهزئين الساخرين لا يمكن أن يعول عليها ولن تؤثر في مسيرة التيار، ويستشهدون بالمأثور والمنقول من النصوص المقدسة للتلبيس على المتابع من حيث إنه حتى الأنبياء تعرضوا للسخرية والانتقاص، وهي رسالة خفية إلى المريدين بأنهم، أي مصدري الفتاوى والأنبياء، في خندق واحد، وفي ذلك تعمية تيارية كبيرة.
* كاتب سعودي
http://www.alwatan.com.sa/news/writerdetail.asp?issueno=3058&id=9476&Rname=27
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق